[email protected] +(00) 123-345-11

مقدمات

مقدمات

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أسعد خلقه وخاتم رسله محمد وآله، ورضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.

فإن أعظم نعمة يسبغها الله تعالى على عبد من عباده أن يشرح صدره لمصاحبة القرآن الكريم، ولذلك ذكر الرحمن سبحانه ضمن آلائه أنه علّم القرآن أولًا قبل أن يذكر أنه خلق الإنسان وعلمه البيان، فقال عز من قائل في مطلع عروس القرآن: (الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان – الرحمن ١-٤)، وقد أكرمني الله تعالى بمحض فضله ومنّه وجميل حلمه وعفوه أن شرح صدري منذ طفولتي لكي يكون القرآن الكريم أصدق صديق وأرفق رفيق، وأن يقدر لي برحمته ولطفه وتوفيقه الخالص أن تضربني ابتلاءات الدنيا حينما كنت أغفل عن القرآن أحيانًا حتى أُفيق فأعود إليه، وأن تتقطع الصلات التي كنت أؤثرها علي القرآن أحيانًا حتى أستوحش من الناس فأتصل به، وأن تؤول المعارف والعلوم التي دَرَستها ودَرَّستها في قلبي إلى مراء ظاهر حتى ألتفت إلى بحار علوم القرآن ومعارفه وحججه، وأن تظهر الحركات والمؤسسات والجامعات التي صرفت فيها من عمري قدرًا على حقيقتها في محدودية الأفق المتاح سياسيًا واقتصاديًا والميل لاختيارات المموّلين والتنفيذيين المحدودة على حساب مقاصد الأمة الكبرى، حتى أنيب إلى أفق القرآن غير المحدود وحبله المتين الذي لا ينحرف المعتصم به عن مقاصده، وأن يتناهى السفر الذي تشاغلت به زمنًا في أرض الله الواسعة إلى أطياف من الذكريات وآثار من الأصداء، حتى تتناهى همتي إلى الرحلة مع آيات القرآن في الآفاق والأنفس أدور معها حيث دارت، وأن تعيا النظريات والمصطلحات الكثيرة التي مرّت عليّ بألسنتها وألوانها المختلفة عن تشكيل تصور مقنع للحياة حتى أعود إلى سلطان كلمات الله التي لا مبدل لها ومنطق القرآن المقاصدي العربي التواصلي التكاملي متعدد الأبعاد والوسائل المتجدد، وأن أقف على شفا الهوة بين الدراسات التاريخية للتفسير والحديث والأصول والكلام وألوان الفقه وبين الواقع العلمي والثقافي الإسلامي والإنساني، حتى أعود إلى القرآن باحثًا عن مفاتيح التجديد والقواعد الحاكمة على التصورات والتصرفات، وأخيرًا، أن يتوق لبّي إلى ما هو أبعد من التعليل بالكيف السببي والماذا الحسّي والكم الوصفي والأين والمتى الفضولي في تساؤلات البشر حتى تنمو ملَكة لماذا فأبحث عن المنطق المقاصدي القرآني، المباشر والمستنبَط. فأي سعادة لامرئ أن يوفقه الله لكي يرغب في كلامه عن أي كلام، وإلى الرحلة بين دفتي كتابه عن أي رحلة، والفكر في آياته المقروءة والمشهودة عن أي فكر، ومنطق قرآنه في التواصل بين الآيات لتوليد القواعد الحاكمة والمقاصد المهيمنة عن أي منطق، فالله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا.

وقد تعورف على أن يكتب من يتصدى لتفسير القرآن العظيم مقدمات يمزج فيها بين ملامح من تجربته الشخصية المتعلقة بكتابة تفسيره والمنهج الذي سلكه في التعامل مع الآيات والسور، وهذان الموضوعان إن أردتُ استقصاء تفاصيلهما احتجت إلى سِفْرين كبيرين، فرأيت أن لاستقصائهما موضعًا آخر ولا يليق إلحاقهما بهذا البحث، فأليَق صيغة للخوض في دروس الحياة هي مذكرات تمشي على ما تعورف عليه في هذا الفن، مع قناعة لديّ أن أفضل وسيلة لتقديم تلك المادة هي الحوار مع خبير بالمحاورة يستكشف ما وراء الأحداث من عِبْرات ويستثير ما في طيات الذكريات من عَبَرات، كما أن أليَق صيغة للتعمق في قضايا المنهج هو بحث منهجي موثّق موسّع يمشي على ما تعورف عليه في هذا الفن كذلك، مع قناعتي أنه من الصعب بل من المحال أن يحيط صاحب تفسير بمنهج نفسه في نظام أو نسق واحد منتظم مطّرد، فهذه ليست طبيعة العلم في تركيب خبراته وتعقيد مؤثراته في وجدان صاحبه، ولا طبيعة القرآن في فتوحات معانيه لمن أنعم الله عليه وتجليات آياته على من يصبر نفسه على دراسته، وأفضل مقاربة لقضايا التفسير المنهجية هي أن يستقري ملامحها عند كاتب التفسير من شاء من الباحثين كلّ من منطلقه وتبعًا لمنهج بحثه وأسئلة واقعه العلمي والعملي، ثم يختلفوا أو ينتقدوا أو يردّوا ما يشاءون لأتعلّم -شاكرًا- فأصحح خطأً أو أزيل تناقضًا أو أجوّد تعبيرًا، أو يُبدوا موافقة أو انتفاعًا أو أثرًا طيبًا مما أدعو أن يكون من عاجل بشرى المؤمن، ومن المعلوم أن سنن الله اقتضت أن يؤخذ من كلام كل أحد ويردّ إلا الرسول ﷺ، وأن كل عمل فكري ولو كان موضوعه القرآن هو اجتهاد على قدر جهد صاحبه البشري المحدود: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال – الرعد ١٧). أسأل الله تعالى أن يكثر في هذا العمل مما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وأن يسيل وادينا -على محدودية قدْره- بما لا يحمل زبدًا من الباطل فيذهب جفاء عنده. إنه أكرم من سئل وأجزل من أعطى وأقدر من عفا.

بيْد أنه قد يناسب هذا المقام -في هذه النسخة المبدئية التجريبية- أن أذكر باقتضاب مقصدي العام من صنع هذا التفسير كما نويته، وأن أسرد تصنيفات أولية للمنظومات المقاصدية القرآنية المستنبطة، وأشير لرؤوس أقلام القضايا المنهجية التي استهديت بها كمعالم وأدلة على الحق في طريق هذه الرحلة المباركة، وأشير أيضًا إلى إرشادات مقترحة لمن أراد أن يدرس هذا التفسير لأغراض الدراسات القرآنية أو البحث أو النقد، وأنوي أن أعود إن شاء الله تعالى في طبعات تالية -خاصة مع استكمال هذا التفسير بحول الله تعالى وقوته- إلى التعرض بتفصيل أكبر خاصة للقضايا المنهجية، نسأل الله تعالى التوفيق لذلك والهداية لأقوم السبل.

مقاصد صنع هذا التفسير

مقاصد المؤمن من أعماله في هذه الحياة الدنيا يعرّفها له ربه تعالى، وعلى رأسها مقاصد خلق الإنسان نفسه، كالعبادة التي قال تعالى عنها: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون – الذاريات ٥٦)، والعبادة يُقصد بها التقوى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون – البقرة ٢١)، والتقوى يُقصد بها الشكر: (واتقوا الله لعلكم تشكرون – آل عمران ١٢٣)، ومن مقاصد خلق الإنسان استخلافه في الأرض، بقصد أن يصلح فيها ويدرأ الفساد ويوقف سفك الدماء، وهو ما نفهمه من قول الله تعالى: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون – البقرة ٣٠)، ويُقصد بالاستخلاف أيضًا الحكم بالحق والتزام صراطه: (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى – ص ٢٦)، ويُقصد به الابتلاء: (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون – الأعراف ١٢٩)، ثم إن الابتلاء يقصد به إحسان العمل: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا – الملك ٢)، وهكذا تتشابك وتتعاضد مقاصد وجود الإنسان في هذه الحياة، والتي ينبغي للعبد أن يتغيا تحقيقها في الواقع حين يشرع في أعماله القلبية أو الفعلية. ثم إن تلك المعاني القرآنية المقاصدية ما تفتأ تتفاعل في واقع الناس في اجتهادات تتجدد أبدًا في كل عصر وسياق، فيتولد عنها في نفس كل مؤمن غايات لأعماله ومقاصد للسبل التي يسلكها.

وإنني في هذه الرحلة قد استحضرت مقاصد الخالق تعالى من خلقه كما تعلمتها من كتابه العظيم، فنشأ عنها في نفسي مقصد عام استحضرته على مر السنوات التي قضيتها قائمًا بهذه الدراسة، ومستشرفًا للمستقبل على قدر وسعي، وسألته تعالى أن يجعل عملي سببًا -أجد أجره عنده- نحو تحقق مقاصده في واقع أمتنا الإسلامية والإنسانية، ورأيت هنا أن أعرب عن هذا المقصد العام بما يلي:

استنباط معاصر لشبكة من المنظومات المقاصدية القرآنية، والإسهام بها في إعادة صياغة منهجية للمنظومات المهيمنة نحو تحقيق مقاصد القرآن

وقد يناسب المقام أن أشير هنا في عناوين موجزة إلى ما أعنيه بكل كلمة من هذه الكلمات التي عبرت بها عن مقصدي العام من صنع هذا التفسير، وذلك على سبيل المقدمة لأبرز معالم المنهجية التي انتهجتها في التعامل مع القرآن الكريم وبيانه من سنة النبي ﷺ كما أعرضها تاليًا، وهي المعالم التي مثلت لي أدلة رئيسة هادية على طريق البحث نحو تحقيق المقصد العام المذكور.

(١) استنباط معاصر لشبكة من المنظومات المقاصدية القرآنية

أما الاستنباط فأعني به المفهوم المذكور في قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم – النساء ٨٣)، وهو مفهوم أوسع من ما اصطلح على وسمه بالاستنباط عند المناطقة أو الأصوليين، الذي يجعلونه مقابلًا للاستقراء، وحيث يخضع الاستنباط عندهم في عمقه إلى آلة المنطق الإغريقي (أورغانون)، في مقابل الاستقراء الذي يستحضر فيه المستقرِي قضية أو علاقة مسبقة مقترحة ثم يمسح مجال البحث -وهو القرآن الكريم هنا- من أجل إثبات تلك القضية، والذي يصنفونه بين استقراء ناقص فيه حصر غير مستوعب لكل الحالات وبين استقراء كامل يرون -شكليًا- أنه يستوعب الحالات، إلى آخره. وأرى أن هذا المنطق -باستنباطه واستقرائه- يضيق عن الوفاء بما نتعلمه من المنطق القرآني الواسع المركب، والذي هو منطق مقاصدي عربي تواصلي تكاملي متعدد الأبعاد والوسائل متجدد كما يأتي قريبًا، وبالتالي فعملية الاستنباط في هذه الدراسة هي توليد للمعاني من حصائل ما يلي: التقصيد بمعنى البحث عن الغايات على كل المستويات، والتوصيل بمعنى البحث عن الصلات في كل الصور، والتكامل بمعنى الانطلاق من تصور أعلى تتركب فيه الأجزاء قيد البحث، وتعددية الأبعاد بمعنى الخروج من الاختيارات الثنائية الحتمية بين التصنيفات الفلسفية واللغوية والتخصصية والأصولية بألوانها إلى اعتبارها جميعًا، ومن تلك الحصائل يتولد في روع المجتهد الباحث عن المقصد -بفضل الله تعالى وحده- معنى مقصود، فإذا غلب على ظني واستأنست له بما يؤيده ولم أجد ما يعارضه اعتمدته كمقصد ”مستنبط“، ولسوف يجد القارئ الكريم أنه كلما ذُكر مقصد غير منصوص عليه صراحة في القرآن الكريم أو ما صح نقله من كلام النبي ﷺ، كلما أُتبع غالبًا بجملة اعتراضية نحو ”كما استنبطناه على أي حال“. وأما وصف الاستنباط بالمعاصر فلأنه لا يحق لبشر أن يدّعي أن تفسيره أو تقصيده هو التفسير أو المقصود حصريًا بالآيات والسور، لأنه حتى ولو صح التفسير أو التقصيد في غالب الظن فإن الإحاطة بكل وجوهه لهي من العلم الذي لا يعلمه إلا الله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله – آل عمران ٧)، ولن يظهر التأويل الكامل للقرآن إلا يوم يقوم الأشهاد: (يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق – الأعراف ٥٣)، وبالتالي فمن طبيعة التفسير -أي شرح المعاني لتقريبها للدارسين- والتأويل -أي صرف الظاهر إلى ما وراءه من معنى- أن يتجدد ما يقبل التجدد منهما في كل عصر وسياق، وإذا كان استنباط المقاصد فرع من فروع التفسير والتأويل، فإنه بالتالي يتجدد مع تجدد العصور والسياقات، ومن مقاصد صنع هذا التفسير الإسهام في هذا التجديد، إن شاء الله تعالى. وأما الشبكة فهي أقرب ما أعرف من هياكل لكي تعبر عن العلاقات المركبة التي تتصل فيها الأجزاء دون تراتبية متصورة على شكل من الأشكال الهندسية البسيطة بالضرورة، وإننا إذا حللنا العلاقات التراتبية في النظريات المقاصدية التي وصلتنا من الاجتهادات التراثية والمعاصرة على حد سواء، لوجدنا أنها دائمًا ما تخضع لشكل هندسي بسيط يليق بما يصنع البشر، كقائمة سردية ليس بين عناصرها تراتب، أو هرم ذي مستويات متصاعدة، أو مثلث يتصل كل جزء منه بالجزأين الآخرَين، أو دائرة يتصّل كل جزء منها بما يليه إلى أن يعود إلى الأول، وهلم جرًا، ولكن التراتبيات الأقرب لسنن الله في خلْقه -سواء الخلْق الذي نصنفه كمواد أو نصنفه كمعاني- متشابكة بشكل لا يخضع لهذه الأشكال الهندسية البسيطة، ولو أفادنا بعضها من باب التنظير الذي نحتاجه في التعليم والبحث والتخطيط. وأما المنظومة فأعني بها كل مركب من أجزاء تنتظم لتحقيق غاية عرفناها أو جهلناها، والمنظومات المقاصدية القرآنية التي نستنبطها نطاقها القرآن كله، أو سورة منه، أو مجموعة سور، أو فقرة من سورة، أو موضوع قرآني، على أقسام كثيرة أذكر بعضها تاليًا، والمنظومة المقاصدية تتركب من مقاصد فرعية نستنبطها من أجزائها وأبعادها في حدود ذلك النطاق، وعلاقات المنظومات ببعضها مركبة، فقد تتركب المنظومة من منظومات، نتصور تركيبها على هياكل متنوعة، وقد تتقاطع المنظومات في عناصر مشتركة بينها، وقد تتصل المنظومات ببعضها بمعنى من الوحي أو اعتبار من الواقع، وقس على ذلك. وسوف يجد القارئ لهذا التفسير مقدمة لكل سورة تحت عنوان ”الخيوط الناظمة لمقاصد السورة“، فيها عرض لما نعتبره ”المقصد العام للسورة“، وعرض -حسب المقام- لعلاقة المقصد العام بالمقاصد الفرعية التي نظمناه من خيوطها، وعلاقته بمقصد السورة أو السور السابقة أو اللاحقة في الترتيب. وإنه بناء على الموقع المركزي الذي احتلته المنظومات التي حاولت استكشافها من مقاصد الآيات والسور في هذا التفسير واتصالها بكل ما كتبته فيه، فقد بدا لي أن يكون العنوان الموسوم به ”التفسير المقاصدي“ هو: ”كشف المنظومات من مقاصد السور والآيات“، وأعني بالكشف هنا الاستكشاف. ثم بدا لي أن هذا العنوان يليق أيضًا بالهدف الآخر الذي قصدته من صنع هذا التفسير، وهو ”الإسهام في إعادة صياغة منهجية للمنظومات المهيمنة على الواقع العلمي والعملي“، إذ أن ”الكشف“ له وجه آخر بمعنى الإزالة، كما في قوله تعالى: (ويكشف السوء – النمل ٦٢)، ويكون المقصود بـ”مِن“ ليس التبعيض بل التحول والنشوء أي باعتبارها ”بيانية“، كما في قوله: (ولتكن منكم أمة – آل عمران ١٠٤)، والمعنى إذن أن إعادة الصياغة المنشودة تقتضي كشفًا بمعنى الإزالة لما يتنافي مع مقاصد الخالق من الخلق من المنظومات المهيمنة المعاصرة. هذان إذن معنيان -قريب وبعيد- مقصودان بعنوان التفسير. وأما منظومات مقاصد القرآن التي حاولنا استكشافها، فلها أبعاد لا تنحصر مبثوثة أقسامها في ثنايا هذا التفسير، وقد يليق بمقام هذه المقدمات أن أسرد أبرزها سردًا غير متراتب ولا مستوعب، كالتالي: مقاصد القرآن كله، مقاصد كل سورة، مقاصد سورتين متتاليتين معًا، مقاصد مجموعات من السور كالطوال والمئين والمثاني والمفصل وغيرها، مقاصد كل آية في سياقها من السورة وفي ما تقصد إليه كما نستنبط من كلماتها، مقاصد مجموعة الآيات الافتتاحية أو الختامية في السورة، مقاصد تكرار الآيات أو الكلمات بحروفها أو تكرارها بحروف أو كلمات متشابهة، مقاصد ترتيب الكلمات في الجمل القرآنية، مقاصد الإنشاء من أمر ونهي ونداء واستفهام وتعجب وما إليها، مقاصد الإيجاز والإطناب والفصل والوصل والخروج على مقتضى الظاهر لأغراض المعنى، مقاصد الذكر والحذف والتقديم والتأخير والتنكير والتعريف، مقاصد البيان من تشبيه وكناية ومجاز -مع ميل عام لاعتبار مفاهيم القرآن تعبيرات عن حقائق ولو كانت غيبية-، مقاصد التعبيرات التي تسمى بديعية من التفات -مع اعتبارنا لكل ألوان الالتفات- والتعريض والتقسيم والمشاكلة وتجاهل العارف والمذهب الكلامي والجناس ورد العجز على الصدر -مع تركيز خاص على رد خواتيم السور على افتتاحياتها-، مقاصد تذييل الآيات خاصة بذكر أسماء الله تعالى الحسنى، مقاصد الكلمة في سياقها من الآية وفي ما تقصد إليه من مفهوم تدل عليه، مقاصد القراءات القرآنية الواردة في كلمات الآية، مقاصد القراءات الشاذة كروايات تفسيرية، مقاصد تعريب أسماء الأعلام ذات الأصل غير العربي، مقاصد الحركة على آخر الكلمة المتصلة بإعرابها، مقاصد أحكام التلاوة من مد وغنّة وإمالة وإشمام وإدغام وسكْت ومخارج الحروف وصفاتها وما إلى ذلك، مقاصد الوقف اللازم والجائز والمتعانق، مقاصد انتهاء الآية عند موضع معين ولو في وسط جملة، مقاصد كتابة حرف الكلمة على هيئة معينة كما نُقل من الخط العثماني، مقاصد الحرف القرآني في ما يدل عليه صوته من معنى وما يقصد إليه تركيب الأصوات المتتالية من معاني، مقاصد الفقرة من الآيات التي تتناول موضوعًا قرآنيًا واحدًا فنبحث في مقاصده، إلى آخر الأقسام. ثم إن الموضوعات القرآنية التي بحثنا عن مقاصدها تندرج تحتها أقسام شتى تخرج عن الحصر، بل إن الموضوعات القرآنية نفسها تتجدد أبدًا -ومعها مقاصدها- مع تجدد العلوم والظواهر، وأسرد هنا بعضًا من أبرز تلك الموضوعات القرآنية سردًا غير متراتب ولا مستوعب كذلك، كالتالي: مقاصد العقائد كالإيمان بالله -خاصة العلم به تعالى عن طريق أسمائه الحسنى- وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر وغيرها من العقائد، ومقاصد القصص كقصص الأنبياء والأمم الغابرة وسيرة النبي ﷺ في القرآن وغيرها، ومقاصد الأمثال في سياق السورة وسياق الواقع المعيش، ومقاصد الغيبيات كالجنة والنار والملائكة والجن والملأ الأعلى والسماوات والأرضين وغيرها، ومقاصد الكونيات كمقاصد خلق الجبال والشجر والأنعام والنجوم والشمس والقمر والماء والريح وغيرها، ومقاصد التعبديات أو الشعائر كمقاصد الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والنذر والدعاء وغيرها، ومقاصد التشريعات بأنواعها، كالاجتماعيات، ومنها مقاصد الزواج والطلاق والحضانة وصلة الرحم والجيرة، وكالمعاملات بين الناس، ومنها مقاصد البيوع وكتابة الدين والمواريث المفروضة والإنفاق، وقس على ذلك. ثم بحثنا في مقاصد السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام كما يشير إليها القرآن، واسترشدنا بطبيعة الحال في هذا الباب بتقسيمات السابقين له، كالسنن القولية والفعلية والتقريرية، والتصرفات النبوية بقصد التشريع والقضاء والسياسة والنصيحة وغيرها، وما يلحق بذلك مما اصطلح على تسميته بمقاصد السكوت التشريعي، أي ترك النص -من القرآن أو السنة- تفاصيل معينة كي لا تدخل في الثوابت ويظل الحكم عليها متغيرًا مع تغير الأحوال، وتأتي هذه الموضوعات في مواضعها من الآيات. ثم إن موضوعات القرآن تتجدد لا لتجدد النص القرآني نفسه بل لتجدد الفهم له مع تجدد العلوم في كل عصر وأرض، ويدخل فيها في عصرنا ما استجد من علوم اصطُلحت لها عناوين جديدة، ويدخل بالتالي في التفسير المقاصدي البحث عن مقاصدها من القرآن، كمقاصد الاقتصاد، والعمارة، والفنون، واللغويات، والإدارة، والتخطيط، والبيئة، والقانون، والسياسة الدولية، وعلم الإنسان، وعلم النفس، وعلم الفضائيات، وعلوم الأرض، وعلوم الهندسة والبيئة، إلى آخر العلوم المستجدة، بالإضافة إلى العلوم المستقرة عناوينها عبر الألفيتين السابقتين، كالطب، والزراعة، والسياسة، والحرب، والتاريخ، واللغة العربية، والحيوان، إلى آخرها، فضلًا عن العلوم التي اصطلح على تسميتها بالعلوم الشرعية أو الإسلامية، كالتفسير والحديث والفقه -بالمعنى التشريعي- والأصول بأنواعها، إلى آخرها. وسواء كان عنوان العلم موروثًا أو جديدًا فإن محتويات العلوم كلها تتجدد، واستنباط مقاصد من القرآن نرى أنه ينبغي أن تتغياها هذه التخصصات لهو من الفقه الذي يجب على أمة القرآن تجديده في كل عصر. ثم إن موضوعات القرآن تتجدد ليس فقط بتجدد العلوم بل بتجدد الظواهر المعيشة، بل إننا في هذا التفسير ندعو إلى انتقال الدراسات الإسلامية -منهجيًا وتدريجيًا- من التخصص في العلوم حسب التقسيم الجامعي ”الأكاديمي“ -أي التخصصات الذي اصطلح على تصنيفها تحت الإنسانيات والاجتماعيات والطبيعيات والتطبيقيات- إلى تقسيم التخصصات حسب الظواهر الكبرى المعيشة، ووضع أولويات للتعامل معها تحددها الأولويات المقاصدية القرآنية، مع تكامل دراسات الظواهر مع دراسات الأصول التي هي ألصق بمنهجية التعامل مع نصوص الوحي، كما أعرض باختصار تاليًا.

(٢) الإسهام في إعادة صياغة منهجية للمنظومات المهيمنة نحو تحقيق مقاصد القرآن

أما استعمال كلمة الإسهام فهو من باب بذل الوسع، وهو ما يسأل الرحمن الرحيم عباده عنه ويحاسبهم عليه: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها – البقرة ٢٨٦)، وحتى لو وددت أن تقر عيناي ويُشفى صدري بما أحب من تحقق جزء معتبر من هذه الغاية المنشودة في حياتي -أي إعادة صياغة منهجية للمنظومات المهيمنة نحو تحقيق مقاصد القرآن-، إلا أنه من المعلوم أن لكل أجل كتاب، وأن سنن الله تعالى تقتضي أن التغييرات التاريخية الكبرى -مثل توجيه الأمم نحو مقاصد أسمى وعُمران أرقى- لا تحدث بين عشية وضحاها، ولكنها قد تحدث خلال عمر جيل واحد فحسب، بشرط أن يكون ذلك الجيل مؤهلًا لهذا الفتح: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا – النور ٥٥)، وصاحب هذا التفسير يرنو إلى التشرف بالإسهام في الإعداد القرآني لهذا الجيل من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذي اقتضت سنة الله تعالى ظهوره بعد كل فترة لكي يُحدث الله على يده التجديد المنشود نحو تحقيق مقاصد القرآن في واقع الناس أفرادًا وجماعات. وأما إعادة الصياغة، فالمقصود بها هو رصد ما في الواقع من خير وشر -حسب المعايير الإسلامية-، ثم العمل على تعزيز الخير ودعم تياراته لكي يقترب الواقع أكثر من تحقق المقصودات القرآنية فيه، وكذلك العمل على إزالة الشر وخلخلة أركانه لكي يقترب الواقع أكثر من تحقق تلك المقصودات فيه، وليست إعادة الصياغة هدمًا أعمى يدمر المنظومات المعاصرة على ما فيها من خير كثير ومنافع للناس، ولا هو بالتجميل الشكلي لها فحسب، كما نرى أحيانًا باسم دعاوى التوافق مع الشريعة أو مقاصدها رغم ما فيها من قصور شديد في أصولها وتطبيقاتها عن حقيقة ما قصده الله تعالى لعباده من غايات. وأما وصف إعادة الصياغة بالمنهجية، فهذا هو المستوى الذي قصدت العمل عليه في هذا التفسير، وأقصد بالمنهج مستوى الأصول التي تنبني عليها الفروع من بعد، أو المقاربة القاعدية التي تتأسس عليها التطبيقات والمؤسسات من بعد، فالقرآن العظيم ليس كتاب تاريخ ولا اقتصاد ولا سياسة ولا اجتماع ولا عمارة ولا فنون ولا طب ولا لغة ولا قانون ولا فلك ولا كيمياء ولا هندسة ولا علم كلام ولا غيرها من التخصصات المحدثة التي تتجلى في منظومات الواقع، ولكنّ القرآن يعلمنا كيف نتعامل منهجيًا مع كل التخصصات ومع كل ظواهر الواقع المعيش، أي كيف نتصورها أصلًا ثم كيف ندعم ما صلح منها ونقوّم ما فسد نحو تحقيق مقاصد الخالق تعالى من الخلق. وهذا التفسير محاولة لتوجيه أهداف المنظومات الواقعية بكل أبعادها نحو تحقيق المنظومات من مقاصد القرآن كما نستكشفها.

حقوق الطبع والنشر 2024, كل الحقوق محفوظة